الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
عادت سورة النساء في أواخرها للحديث عن أهل الكتاب فضمت جديدا لا غنى عنه! وأهل الكتاب يهود ونصارى. فأما اليهود فيرفضون عيسى ومحمدا معا، يقولون عن عيسى إنه أتى لغير رشدة، فهو زنيم وأمه بغى!! وأما محمد فهو أعرابى ادعى الوحى ولا صلة له به! وأما النصارى فيرون محمدا مقطوع العلاقة بالسماء ويذكرونه بنعوت سيئة... هل هؤلاء المكذبون لرسل الله يوصفون بأنهم مؤمنون بالله وكتبه ورسله؟ تقول السورة الكريمة عن هؤلاء {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما}. وبعد مناقشة لأهل الكتاب سنتأمل فيها بعد قليل قال الله لرسوله محمد {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا}. إن الذي أوحى إلى هؤلاء أوحى إلى محمد، كلهم سفراء من الله إلى خلقه، كلفوا فبلغوا، ما خانوا ولا فرطوا. وإذا وصف محمد وحده بشيء فهو أنه أفصحهم بيانا وأشدهم بلاء وآصلهم في إحياء الفطرة ومناشدة العقل..!! وتراثه الباقى لا يزال وسوف يبقى إلى قيام الساعة يؤسس اليقين، ويوقظ الغافلين ويسدد الخطى إلى رب العالمين. ولذلك قال الله فيه {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا}. والنظرة المحايدة إلى كتاب محمد عليه الصلاة والسلام تؤكد أنه لا نظير له بين تراث النبيين جميعا. كما أن النظرة المحايدة إلى حياة محمد تشير إلى أنه تفرد بنسق في الذكر والشكر والصبر والتوكل وبعد الغاية تجعلنا نجزم بأنه إذا شيب النبوة لم يستحقها من بعده أحد في الأولين والآخرين!!ونرجع إلى مناقشة القرآن لأهل الكتاب: ماذا يطلبون؟ {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة!!}. وهذه ليست مقترحات عقل يبحث عن الحقيقة ويسعى إلى اليقين! هذه مقترحات طبع غليظ وقلب متكبر ولذلك لما سئل موسى ما سئل، وفجر قومه على هذا النحو عوقبوا بصاعقة استأصلت شأفتهم. واليهود من أغلظ الناس طباعا وأقساهم قلوبا، ولذلك أخذ عليهم الميثاق بالتهديد!! رفع الجبل فوق رءوسهم، وأوشك أن ينقض عليهم ليكون فوقهم مقبرة جماعية..... ومع ذلك نقضوا الميثاق! قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما}. وما داموا يرون مريم بغيا فهم يسعون إلى قتل ابنها لاسيما وقد ادعى النبوة!! وقد نجى الله عيسى من مكايدهم، ولم ينجح سعيهم في الخلاص منه فقال.. {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه...}. ولكن مواريث الوهم التي تسيطر على العامة جعلت كثيرين يصدقون شائعة الصلب والفداء، ويجعلونها عقيدة ثابتة. والواقع أن السلبية السائدة تخدم ظنونا لا تعتمد على عقل ولا نقل، ولو اتسعت المعرفة وتحرر الفكر لتغير الموقف ولذلك يقول القرآن الكريم مؤكدا نجاة عيسى وعبوديته لله الواحد {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما}. وتجئ خواتيم سورة النساء لتصدر أحكاما حاسمة على كل الطوائف التي سبق الحديث عنها، فالكافرون والمنافقون لهم سوء العقبى، لأنهم يجهلون ويتعصبون للجهل ويعملون على تجهيل الآخرين أي أنهم يكفرون ويمنعون الغير من الإيمان، ولذلك قال فيهم: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا * إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا...} الخ. والمتفرس في ملامح الاستعمار الحديث يراه جامعا بين إلحاد الفكر وظلم الشعوب أو بين كراهية الإسلام وإذلال اتباعه! ثم يتجه إلى اليهود نداء يستحق التأمل {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما..}. لقد نودى اليهود مجردين من كل انتساب علمى، لأنهم حملوا التوراة ثم لم يحملوها.! ولم يعتبروا أهل كتاب لأنهم شابهوا عبدة الأصنام في الجهل والإنكار، بل زادوا عليهم الغلو فصح أن ينادوا بيا أيها الناس كما ينادى أهل مكة، ومن لا علاقة له بوحى قط..! وتلا ذلك نداء للنصارى الذين غلبتهم الحيرة، وأتاهتهم في فجاج كثيرة، وسبب ذلك الغلو الشديد! إن الغلو يبعث على المبالغة، وينأى بأصحابه عن الجادة من أجل ذلك يقول الله لهم {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا}. والحق أن التنقيب في الكون، والبحث الشاق في السموات والأرض لا يسفر إلا عن إلهه واحد، أين الآخر؟ أين ما خلق ورزق؟ من الذي شارك الله في خلق الذرة والمجرة؟ من الذي شاركه في خلق النطفة والبويضة؟؟. من الذي يساعده في تدبير الأمور؟، إن العالم الكبير لا تديره شركة من أي نوع! إنما الله إله واحد! الخضوع له حق، والامتثال له حق، والزلفى إليه واجبه، وعبادته فريضة على الكل. ولذلك قال تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا}.وتختم سورة النساء بآية تشرح ميراث الكلالة- وهو من لا ولد له ولا والد. وهى بذلك الختم تكمل ما بدأت به السورة من حديث عن الأسرة وتكوينها وحراستها وتفصيل قضاياها {يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم}. وقد رأيت أن موضوع السورة عام يتناول المجتمع كله وأحوال الطوائف العديدة التي يتكون منها، فحديث النساء جزء من كل. أو كما عبرنا: الأسرة مجتمع صغير، والمجتمع أسرة كبيرة، وهداية الله تشمل الجميع لأنه بكل شيء عليم. وقصار النظر يحسبون السورة أجزاء مفككة، وهذا خطأ يحمى الله منه أهل التدبر والاعتبار.... أرفض خداع العناوين، إن أسماء السورة القرآنية شيء غير موضوعاتها، الموضوعات غالبا متشعبة مستفيضة أما الأسماء فذات دلالات جزئية. خذ مثلا سورة البقرة، إن قصة بنى إسرائيل مع البقرة التي أمروا بذبحها لا تستغرق نصف صفحة من صفحات السورة التي تزيد على الأربعين.... والسورة بعدئذ بحر متلاطم من التاريخ والتشريع والحكمة والأدب... وكذلك سورة النساء! إن شئون الأسرة فيها محدودة أما السورة نفسها ففيها التركيبة الاجتماعية التي تلحظ على العالم أجمع في شتى أقطاره. ولقد ألف كبار العلماء كتبا حسنة شرحت ما في هذه السورة من آداب اجتماعية عالية تتناول الأصدقاء والخصوم، والكبار والصغار، والأغنياء والفقراء.... خصوصا أتباع الأديان المختلفة وما ينشأ بينهم من أخذ ورد، وحرب وسلم، وأوضحت المنهاج الذي يلتزمه المسلم، ويثبت عليه ما دام الليل والنهار. اهـ.
|